سورة الأحقاف - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحقاف)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {واذكر أخا عاد} وهو هود عليه السلام {إِذا أنذر قومه} بدل اشتمال أي: وقت إنذاره قومه {بالأحقاف} جمع حِقْف، وهو رمل مستطيل فيه انحناء، من: احقوقف الشيء إذا اعوجَّ، وكان عاد أصحاب عُمُد، يسكنون بين رمال مُشرفة على البحر، بأرض يُقال لها: الشِّحْر بأرض اليمن. وعن ابن عباس: الأحقاف: واد بين عُمان ومَهْرَة، وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن، في حضرموت، بموضع يقال له: مَهْرة، وإليه تنسب الإبل المهرية، ويقال لها: المهاري، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إِرَم، والمشهور: أن الأحقاف اسم جبل ذا رمل مستطيل، كانت منازل عاد حوله.
{وقد خَلَتْ النُذر} جميع نذير، بمعنى النذر، أي: مضت الرسل، {من بين يديه ومن خلفه} أي: من قبل هود ومَن بعده، وقوله: {وقد خلت..} الخ: جملة معترضة بين إنذار قومه وبين قوله: {ألاَّ تعبدوا إلا اللّهَ} مؤكدة لوجوب العمل بموجب الإنذار، وإيذاناً باشتراكهم في العبادة المذكورة، والمعنى: واذكر لقومك إنذار هود قومَه عاقبةَ الشرك والعذاب العظيم، وقد أنذر مَن تقدمه مِن الرسل، ومَن تأخر عنه قومهم قبل ذلك. {إني أخاف عليكم} إن عصيتموني {عذابَ يومٍ عظيم} يوم القيامة.
{قالوا أجئتنا لتأفكَنَا} لتصرفنا {عن آلهتنا} عن عبادتها، {فأْتنا بما تَعِدُنا} من العذاب العظيم {إن كنت من الصادقين} في وعدك بنزوله بنا، {قال إِنما العلمُ} بوقت نزوله، أو بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك، {عند الله} وحده، لا علم لي بوقت نزوله، ولا دخل لي في إيتانه وحلوله، وإنما عِلْم ذلك عند الله، فيأتيكم به في وقته المقدّر له. {وأُبلغكم ما أُرسلت به} من التخويف والإنذار من غير وقف على تعيين وقت نزول العذاب، {ولكني أراكم قوماً تجهلون} حيث تقترحون عليَّ ما ليس من وظائف الرسل، من الإتيان بالعذاب وتعيين وقته.
رُوي: أنهم قحطوا سنين، ففزعوا إلى الكعبة، وقد كانت بنتها العمالقة، ثم خربت، فطافوا بها، واستغاثوا، فعرضت لهم ثلاث سحابات: سوداء وحمراء وبيضاء، وقيل لهم: اختاروا واحدة، فاختاروا السوداء، فمرتْ إلى بلادهم، فلما رأوها مستقبلة أوديتهم، فرحوا واستبشروا، وهذا معنى قوله تعالى: {فلما رَأَوْهُ} أي: العذاب الذي استعجلوه بقوله: {فأتنا بما تعدنا} وقيل: الضمير مبهم، يُفسره قوله: {عارضاً} على أنه تمييز، أي: رأوا عارضاً، والعارض: السحاب، سُمي به لأنه يعرض السحاب في أُفق السماء. قال المفسرون: ساق الله السحابة السوداء التي اختاروها بما فيها من النقمة، فخرجت عليهم من واد يُقال له: مغيث، فلما رأوها مستقبلة أوديتهم، أي: متوجة إليها، فرحوا، وقالوا: {هذا عارض مُمطرنا} أي: ممطر إياناً، لأنه صفة النكرة، فيقدر انفصاله.
قال الله تعالى: {بل هو ما استعجلتم به} من العذاب، وقيل: القائل هود عليه السلام، {ريحٌ فيها عذابٌ إليم} فجعلت تحمل الفساطيط، وتحمل الظعينة فترفعها في الجو، فتُرى كأنها جرادة.
قال ابن عباس: لما دنا العارض، قاموا فنظروا، فأول ما عروا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من ديارهم من حالهم ومواشيهم، تطير بهم الريح بين السماء والأرض، مثل الريش، فدخلوا بيوتهم، وأغلقوا أبوابهم، فألقت الريح أبوابهم، وصرعتهم، وأمر الله تعالى الريح فأمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، لهم أنين، ثم أمر الله تعالى الريح، فكشفت عنهم الرمال، فاحتملتهم، فرمت منهم في البحر، وشدخت الباقي بالحجارة.
وقيل: أول مَن أبصر العذاب امرأة منهم، قالت: رأيت ريحاً فيها كشهب النار، وهو معنى قوله: {تُدَمّرُ كلَّ شيء} أي: تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير، فعبّر عن الكثرة بالكلية. {بأمر ربها} أي: رب الريح، وفي ذكر الأمر والرب، والإضافة ألى الريح، من الدلالة على عظيم شأنه تعالى ما لا يخفى، {فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنُهُم} أي: فجاءت الريح فدمرتهم، فصاروا بحيث لا يُرى شيء إلا مساكنهم خاوية، ومَن قرأ بتاء الخطاب، فهو لكل مَن يتأتى منه الرؤية، تنبيهاً على أن حالهم صار بحيث لو نظر كل أحد بلادَهم لا يَرى فيها إلا مساكنهم.
{كذلك} أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع {نجزي القومَ المجرمين} وننجي المؤمنين، رُوي أن هود عليه السلام ومَن معه من المؤمنين في حظيرته، ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين على الجلود، وتلذه الأنفس، وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء، والأرض، وتدمغهم بالحجارة. سبحان الحكيم القدير، اللطيف الخبير.
الإشارة: إنما جاءت النُذر من عهد آدم عليه السلام إلى القيامة الساعة، تأمر بعبادة الله، ورفض كل ما سواه، فمَن تمسّك بذلك نجى، ومَن عبد غير الله، أو مال إلى سواه، عاجلته العقوبة في الظاهر أو الباطن. والله تعالى أعلم.


قلت: {فيما} موصولة، أو موصوفة، ومفعول {اتخذوا} الأول: محذوف، و{آلهة} مفعول ثان، أي: اتخذوهم آلهة، و{قرباناً} حال، ولا يصح أن يكون مفعولاً ثايناً ل {اتخذوا}، و {آلهة}: بدل، لفساد المعنى، وأجازه ابن عطية، ووجه فساده: أن اتخاذهم آلهة منافٍ لاتخاذهم قرباناً؛ لأن القربان مقصود لغيره، والآلهة مقصود بنفسها، فتأمله، وإن نافية، والأصل: فيما ما مكنكم فيه، ولمّا كان التكرار مستثقلاً جيء بأن، كما قالوا في مهما، والأصل: مَا مَا، فلبشاعة التكرار قلبوا الألف هاء، وقيل: إن صلة، أي: في مثل ما مكنكم فيه، والأول أحسن.
يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد مكَّنَّاهم} أي: قررنا عاد ومكناهم في التصرُّف {فيما} أي: في الذي، أو في شيء ما {مكناكم} يا معشر قريش {فيه} من السعة والبسطة، وطول الأعمار، وسائر مبادئ التصرفات، فما إغنى عنهم شيء من ذلك، حين نزل بهم الهلاك، وهذا كقوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَكُمْ} [الأنعام: 6] أو: ولقد مكنهم في مثل ما مكنكم فيه، فما جرى عليهم يجري عليكم، حيث خالفتم نبيكم، والأول أوفق بقوله: {كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِى الأَرْضِ} [غافر: 21] وقوله: {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً} [مريم: 74].
{وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدةً} أي: آلات الإدراك والفهم، ليعرفوا بكل واحدة منها ما خلقتْ له، وما نيطت به معرفته، من فنون النعم، ويستدلوا بها شؤون منعمها، ويداوموا على شكرها، ويوحدوا خالقها،، {فما أغنى عنهم سمعُهم} حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل، {ولا أبصارهم} حيث لم يُبصروا ما نصب من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى ووجوب وجوده، {ولا أفئدتهم} حيث لم يتفكّروا بها في عظمة الله تعالى وأسباب معرفته، فما أغنت عنهم {من شيء} أي: شيئاً من الإغناء. و{من} زائدة؛ للتأكيد، وقوله: {إِذ كانوا يجحدون بآيات الله} ظرف لقوله: {فما أغنى} جارٍ مجرى التعليل، لاستواء مؤدّي التعليل والظرف في قولك: ضربته إذ أساء، أو: لإساءته، لأنك إذا ضربته وقت إساءته فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه، وكذلك الحال في حيث دون سائر الظروف غالباً، أي: فما أغنت عنهم آلات الإدراك لأجل جحودهم بآيات الله. {وحاق} أي: نزل {بهم ما كانوا به يستهزؤون} من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء، ويقولون: {فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين}.
{ولقد أهلكنا ما حولَكم من القرى} يا أهل مكة، كحِجر ثمود، وقرى لوط، والمراد: أهل القرى، ولذلك قال: {وصرَّفنا الآياتِ} كرّرناه، {ولعلهم يرجعون} أي: كرّرنا عليهم الحجج وأنواع العِبر لعلهم يرجعون من الطغيان إلى الإيمان، فلم يرجعوا فأنزلنا عليه العذاب.
{فلولا نَصَرَهم الذين اتخذوا من دون الله قُرباناً آلهةً} أي: فهلاّ منعهم وخلصهم من العذاب الأصنام الذين اتخذوهم آلهة من دون الله، حال كونها متقرباً بها إلى الله، حيث كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] و{هَؤُلآءِ شُفَعَآؤُنَا عِندَ اللَّهِ} [يونس: 18] {بل ضلوا عنهم} أي: غابوا عن نصرتهم، {وذلك إِفكهم وما كانوا يفترون} الإشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم وضلالهم، أي: وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذها آلهة، وثمرة شركهم، وفترائهم على الله الكذب.
وقرأ ابن عباس وابن الزبير: {أَفَكَهم} أي: صرفهم عن التوحيد. وقُرئ: بتشديد الفاء، للتكثير.
الإشارة: التمكُّن من كثرة الحس لا يزيد إلا ضعفاً في المعنى، وبُعداً من الحق، ولذلك يقول الصوفية: كل من زاد في الحس نقص في المعنى، وكل ما نقص في الحس زاد في المعنى، والمراد بالمعنى: كشف أسرار الذات وأنوار الصفات، وما مكّن اللّهُ تعالى عبدَه من الحواس الخمس إلا ليستعملها فيما يقربه إليه، ويوصله إلى معرفته، فإذا صرفها في غير ذلك، عُوقب عليها. وبالله التوفيق.


قلت: النفر بالفتح: الجماعة من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة ولا يُقال نفر فيما زاد على عشرة، والرهط والقوم والعشيرة والعشر معناهم الجمع، ولا واحد لهم من لفظه، وهو للرجال دون النساء. قاله في المصباح. و{من الجن} نعت للنفر، وكذا {يستمعون}.
يقول الحق جلّ جلاله: {و} اذكر {إِذ صرفنا إِليك نفراً من الجن} أي: أملناهم إليك، وقبلنا بهم نحوك، وهم جن نصيبين، أو جن نينوى، قال في القاموس: نِينوى بكسر أوله، موضع بالكوفة، وقرية بالموصل ليونس عليه السلام. اهـ. {يستمعون القرآن} منه عليه السلام {فلما حضروه} أي: الرسول صلى الله عليه وسلم، أو القرآن، أي: كانوا منه حيث تمّ وفرغ من تلاوته، {وَلَّوا إِلى قومهم منذرين} مقدّرين إنذارهم عند رجوعهم إليهم.
رُوي: أن الجنَّ كانت تسترق السمع، فلما حُرست السماء، ورُموا بالشُهب، قالوا: ماهذا إلا لأمر حديث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، لتعرفوا ما هذا، فنهض سبعة أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى، منهم: زوبعة فمضوا نحو تهامة، ثم انتهوا إلى وادي نخلة، فوافقوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي صلاة الفجر، فستمعوا القرآن، وذلك عند منصرفه من الطائف، حين ذهب يدعوهم إلى الله، فكذّبوه، وردُّوا عليه، وأغروا به سفاءهم، فمضى على وجهه، حتى وصل إلى نخل، فصلّى بها الغداة، فوافاه نفر الجن يصلي، فاستمعوا لقراءته، ولم يشعُر بهم، فأخبره الله تعالى باستماعهم.
وقيل: أمره اللّهُ تعالى أن يُنذر الجن، ويقرأ عليهم، فصرف الله إليه نفراً منهم، وجمعهم له، فقال صلى الله عليه وسلم: «إني أُمرت أن أقرأ على الجن، فمَن يتبعني؟» قالها ثلاثاً، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود، قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة، في شعب الجحون، فخطّ خطّاً، فقال: «لا تخرج عنه حتى أعود إليك»، ثم افتتح القرآن، وسمعت لغطاً شديداً، حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي، وغشيته أسوِدة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم تتقطع كقطع الحساب، ذاهبين، ففرغ صلى الله عليه وسلم مع الفجر، فقال: «أنمتَ؟» فقلت: لا والله، ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، تقول: اجلسوا، فقال: لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «هل رأيت شيئاً؟» قلت: نعم، رجالاً سوداً، في ثياب بيض، قال: «أولئك جن نصيبين» وكانوا اثني عشر ألفاً، والسورة التي قرأ عليهم: {اقرأ باسم ربك}.
فلمَّا رجعوا إلى قومهم {قالوا يا قومنا إِنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى} قيل: قالوا ذلك لأنهم كاناو على اليهودية، وعن ابن عباس: إن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام وهو بعيد. حال كون الكتاب {مُصدّقاً لما بين يديه يهدي إِلى الحق} من العقائد الصحيحة، أو إلى الله، {وإِلى صراطٍ مستقيم} يُوصل إلى الله، وهو الشرائع والأعمال الصالحة.
{يا قومنا أجيبوا دَاعِيَ الله} وهو محمد صلى الله عليه وسلم، {وآمِنوا به} أي: بالرسول أو القرآن، وصفوه بالدعوة إلى الله تعالى بعدما وصفوه بالهداية إلى الحق والطريق المستقيم؛ لتلازمهما، دعوهم إلى ذلك بعد بيان حقيقته واستقامته، ترغيباً في الإجابة، ثم أكدوه بقولهم: {يغفر لكم من ذنوبكم} أي: بعض ذنوبكم، وهو ما كان في حق خالصٍ لله تعالى، فإنّ حقوق العباد لا تُغفر بالإيمان، وقيل: تغفر. {ويُجركمْ من عذابٍ أليم} موجع.
واختلف في مؤمني الجن، هل يُثابون على الطاعون، ويدخلون الجنة، أو يُجارون من النار فقط؟ قال الفخر: والصحيح أنهم في حكم بني آدم، يستحقون الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، وهو قول مالك، وابن أبي ليلى، وقال الضحاك: يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. اهـ. ويؤده قوله تعالى: {وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} كما تقدّم في الأنعام.
{ومَن لا يُجِبْ داعيَ الله فليس بمعجزٍ في الأرض} أي: لا ينجي منه مهرب، وإظهار {داعي الله} من غير اكتفاء بضميره، للمبالغة في الإيجاب، بزيادة المهابة والتقرير وتربيته، وإدخال الروعة. وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض؛ لتوسيع الدائرة، أي: فليس بمعجز له تعالى وإن هرب في أقطار الأرض ودخل في أعمالقها. {وليس له من دونه أولياءُ} ينصرونه من عذاب الله، وهو بيان لاستحالة نجاته بواسطة، إثر بيان استحالة نجاته بنفسه، وجمع الأولياء مبالغة، إذا كان لا ينفعه أولياء، فأولى واحد. {أولئك} الموصوفون بعدم إجابة داعي الله {في ضلال مبين} أي: ظاهر: بحيث لا تخفى ضلالته على أحد، حيث أعرضوا عن إجابة مَن هذا شأنه، وجمع الإشارة باعتبار معنى من، وأفرادَ أولاً باعتبار لفظها.
الإشارة: قد استعملت الجن الأدب بين يديه صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: أنصتوا، فالجلوس مع الأكابر يحتاج إلى أدب كبير، كالصمت، والوقار، والهيبة، والخضوع، كما كانت حالة الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم أنصتوا كأنما على رؤوسهم الطير. قال الشيخ أبو الحسن رضي لله عنه: «إذا جالست الكبراء فدع ما تعرف إلى ما لا تعرف، لتفوز بالسر المكنون» فإذا انقضى مجلس التذكير رجع كل واحد منذراً وداعياً إلى الله كلَّ مَن لقيه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: «ليبلغ الشاهد الغائب» فمَن بلغه ذلك واستجاب ربح وغنم، ومَن لا يجب داعي الله خاب وخسر، والاستجابة أقسام، قال القشيري: فمستجيبٌ بنفسه، ومستجيبٌ بقلبه، ومستجيبٌ بروحه، ومستجيبٌ بسرِّه، ومَن توقف عند دعاء الداعي إليه، ولم يُبادر إلى الاستجابة هُجِرَ فيما كان يُخَاطب به. اهـ.
قلت: المستجيب بنفسه هو المستجيب بالقيام بوظائف الإسلام، والمستجيب بقلبه القائم بوظائف الإيمان، والمستجيب بروحه القائم بوظائف الإحسان، والمستجيب بسره هو المتمكن من دوام الشهود والعيان، وقول: هجر فيما يُخاطب به، أي: كان يُخاطب بملاحظة الإحسان، فإذا لم يبادر قِيد بسلاسل الامتحان. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5